إذا ما كان جليًّا أنَّ تغيير المنكر إنما هو لدرء المفاسد ، كيما يتحقق الوجود المتمكن للأمة المسلمة ، فإنه إذا ما تيقن المسلم ، أو غلب على ظنه الراشد ، أن تغييره منكراً سوف يترتب عليه وقوع منكر أعمّ ، أو أبقى أو أنكى أثراً ، فجمهور أهل العلم يذهبون إلى ترك تغيير ذلك المنكر إلى الأدنى ، دفعاً لوقوع ما هو فوقه .
يقول (( ابن القيم )) : إذا كان إنكار المنكر يستلزم ما هو أنكر منه ، وأبغض إلى الله ورسوله ، فإنه لا يسوغ إنكاره ، وإن كان الله يبغضه ويمقت أهله ، وهذا كالإنكار على الملوك والولاة بالخروج عليهم ، فإنه أساس كل شر وفتنة إلى آخر الدَّهر ...
من تأمل ما جرى على الإسلام في الفتن الكبار والصغار ، رآها من إضاعة هذا الأصل ، وعدم الصبر على منكر ، فطلب إزالته ، فتولد منه ما هو أكبر منه ، فقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى بمكة أكبر المنكرات ولا يستطيع تغييرها ، بل لمّا فتح الله مكة ، وصارت دار إسلام ، عزم على تغيير البيت وردَّه على قواعد إبراهيم ، ومنعه من ذلك مع قدرته عليه ، خشية وقوع ما هو أعظم منه من عدم احتمال قريش لذلك، لقرب عهدهم بالإسلام ، وكونهم حديثي عهدٍ بكفر ، ولهذا لم يأذن في الإنكار على الأمراء باليد ، لما يترتب عليه من وقوع ما هو أعظم منه ... فإنكار المنكر أربع درجات :
( الأولى ) أن يزول ويخلفه ضده .
( الثانية ) أن يقل وإن لم يزل بجملته .
(الثالثة ) أن يخلفه ما هو مثله .
( الرابعة ) أن يخلفه ما هو شر منه .
فالدرجتان الأوليان مشروعتان ، والثالثة موضع اجتهاد ، والرابعة محرمة )) ( 66 ).
وتقدير درجات المنكر في حادثات الحياة ونوازلها ، وما بينها من مراتب ، بحاجة إلى بصيرة نافذة في دقائق فقه الدين ، وفي فقه نوازل الحياة ، الذي هو أساس فقه التدين ، وبحاجة أيضاً إلى الحكمة البالغة ، وإخلاص النصح في تحقيق ما اشتبه ، وتحرير ما اشتجر ، وذلك جهد بالغ لا يقوم به إلا صفوة أهل العلم .
يقول الإمام ابن تيمية : (( اعتبار مقادر المصالح والمفاسد هو بميزان الشريعة ، فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص ، لم يعدل عنها ، وإلا اجتهد برأيه لمعرفة الأشباه والنظائر ، وقلّ أن تعوز النصوص من يكون خبيراً لها وبدلالتها على الأحكام .
وعلى هذا إذا كان الشخص أو الطائفة جامعين بين معروف ومنكرٍ ، بحيثلا يفرقون بينهما ، بل إما أن يفعلوهما جميعاً ، أو يتركوهما جميعاً ، لم يجز أن يؤمروا بمعروف ولا أن ينهوا عن منكر ، بل ينظر ، فإن كان المعروف أكثر ، أمر به ، وإن استلزم ما هو دونه من المنكر ، ولم ينه عن منكر يستلزم تفويت معروف أعظم منه ، بل يكون النهي حينئذ من باب الصدّ عن سبيل الله والسعي في زوال طاعته وطاعة رسوله ، وزوال فعل الحسنات .. وإن كان المنكر أغلب ، نهي عنه ، وإن استلزم فوات ما هو دونه من المعروف ، ويكون الأمر بذلك المعروف المستلزم للمنكر الزائد عليه ، أمراً بمنكر، وسعياً في معصية الله ورسوله.
وإن تكافأ المعروف والمنكر المتلازمان ، لم يؤمر بهما ، ولم ينه عنهما ، فتارة يصلح الأمر ، وتارة يصلح النهي ، وتارة لا يصلح لا أمر ولا نهي ، حيث كان المعروف والمنكر متلازمين ، وذلك في الأمور المعينة الواقعة ......
وهذا باب واسع ولا حول ولا قوة إلا بالله .
ومن هذا الباب : إقرار النبي صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أُبّي ، وأمثاله من أئمة النفاق والفجور ، لما لهم من أعوان ، فإزالة منكره بنوع من عقابه ، مستلزمة إزالة معروف أكثر من ذلك ، بغضب من قومه وحميتهم ، وبنفور الناس إذا سمعوا أن (( محمدا )) يقتل أصحابه )) .
ومن ذلك حين قال عبد الله بن أُبي في غزاة سكع فيها رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار فتناصرا : فعلوها ؟ أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليُخرجن الأعزُّ منها الأذلّ ، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقام عمر فقال : يا رسول الله ، دعني أضرب عنق هذا المنافق .
فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « دعه لا يتحدث الناس أنَّ محمدا يقتل أصحابه » ( متفق عليه ) .
فتلك حكمة النبوة التي يجب أن يتأسى بها القائمون بتغيير المنكر ، ولهذا قال (( عمر )) رضي الله عنه بعد أن استبان له نور الحكمة النبوية في هذا :
(( قد ـ والله ـ علمتُ لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أعظمُ بركة من أمري )) .
ومن ثمَّ فإن تغيير المنكر المترتب على تغييره آثار فردية أو جماعية ، لا يستقيم القيام به إلا من بعد مراجعة ملابساته ومساقاته ، والموازنة بينه وبين آثاره ، وهذا يقتضي استشارة أهل العلم والحكمة ، فكثيراً ما يتوقف الطبيب عن معالجة داءٍ ما خشية ما سوف يترتب على معالجته دوائياً أو جراحياً من أدواء وآثار أفدح ، إلى أن تتهيأ الظروف والملابسات لمعالجته دونما آثار ضارة ، وكذلك مُغيِر المنكر يحتاج إلى الحكمة في هذا أكثر من احتياج الطبيب ، فإنَّ ما يترتب على غفلة الطبيب في هذا ، أقل ضرراً مما قد يترتب على غفلة المغيّر للمنكر .. ولا أحسب أن أحداً يتهم مثل ذلك الطبيب بالتقصير أو الخيانة أو الإفراط في القيام بواجبه حينئذ ، بل هو بوصف الحكيم النَّطاسيِّ : أجدرُ وأحقُّ .. وكذلك ينبغي ألا يتهم العامة والدهماء ، علماء الأمة حين يوصون بالصبر على ذلك المنكر ، حتى تتهيّأ له الظروف ومناخات وملابسات ومساقات أفضل ، يؤتي التغيير فيها ثمراً أطيب وأعظم ، وهذا وجه من وجوه المعنى القرآني في قوله تعالى : { ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ } ( النحل : 125 ) ، وفي قوله تعالى : { قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوإِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ } (يوسف : 108 ) .
فالحكمة والبصيرة ، دعامتا النجاح في القيام بتغيير المنكر ، قياماً يرضي الله عزَّ وعلا ، ويحقق الغاية من التكليف به .
وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه .
والحمد لله رب العالمين .